فضل اللغة العربية (2)

فضل اللغة العربية


إبراهيم الحقيل



من آيات الله البينات على عظيم قدرته، وحسن إبداعه، وإتقان خلقه، اختلاف البشر في أشكالهم، وألوانهم ولغاتهم، فرغم أن أصلهم واحد، فأبوهم آدم وأمهم حواء إلا أنهم انقسموا إلى أجناس وقبائل وألسن وألوان مختلفة لا يعلم عددها إلا الله - تعالى -، كما قال - سبحانه وتعالى -: ] وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ [(الروم: 22).


إن اختلاف لغات البشر آية عظيمة، فهم مع اتحادهم في النوع كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كَوَّنَه الله - تعالى -في غريزة البشر من اختلاف التفكير، وتنويع التصرف في وضع اللغات، وتبدل كيفياتها باللهجات والتخفيف، والحذف، والزيادة، بحيث تتغير الأصول المتحدة إلى لغات كثيرة [1].



وامتن الله - تعالى -على الإنسان بأن خلقه، ثم أتبع ذلك بذكر نعمة قدرته على التعبير عما في نفسه إما بالنطق وهو أكمل، وإما بالإشارة إذا عجز عن النطق، وذلك في قوله - تعالى -: ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ )


(الرحمن: 1-4)، فقدَّم جل ثناؤه ذكر البيان على جميع ما توحَّد بخلقه، وتفرَّد بإنشائه من شمس، وقمر، ونجم، وشجر، وغير ذلك، ولمَّا خصَّ الله جل ثناؤه اللسانَ العربي بالبيان علم أن سائر اللغات قاصرة وواقعة دونه [2].



إرسال الرسل بلغات أقوامهم:


ما ترك الله المكلفين حتى بيَّن لهم السبيل إليه، فأرسل لهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وعلَّمهم ما يحتاجون العلم به، كما قال - سبحانه -: ] رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [(النساء: 165) وكل رسول بعثه الله - تعالى - إنما بعثه من نفس قومه، لا من غيرهم، يعرفونه ويعرفهم، ويتكلم بلغتهم، كما في قوله - سبحانه -: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الَعَزِيزُ الحَكِيمُ" (إبراهيم: 4) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لم يبعث الله نبيًّا إلا بلغة قومه) [3].


ومحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الرسل وأفضلهم، أُرْسِلَ إلى الناس كافة، وخُوطِبَ بدعوته العرب والعجم، بعثه الله - تعالى -من قريش أوسط العرب وأفصحهم وخوطب الناس بالعربية؛ لأن أمة العرب أفصح الأمم لسانًا، وأسرعهم أفهامًا، وأقدرهم بيانًا، وألمعهم ذكاءً، وأحسنهم استعدادًا لقبول الهدى والرشاد [4].



العربية محفوظة:


أنزل القرآن بلغة العرب؛ لأنها أصلح اللغات، جمع معان، وإيجاز عبارة، وسهولة جري على اللسان، وجمال وقع في الأسماع، وسرعة حفظ [5]، قال الله - تعالى -: "وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" (الشعراء: 192-195) فوصفه الله - تعالى - بأبلغ ما يُوصف به الكلام وهو البيان [6].


وارتبطت اللغة العربية بهذا الكتاب المُنَزَّل المحفوظ، فهي محفوظة ما دام محفوظًا، فارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم كان سببًا في بقائها وانتشارها حتى قيل: لولا القرآن ما كانت عربية [7].




سعة اللغة العربية:


اللغة العربية أوسع اللغات، وأكثرها بيانًا وإفهامًا بحاجة الإنسان، قال الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى -: (لسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرهم ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي) [8].


إن اللغة العربية غنية بثروة لغوية لا قدرة لأحد على أن يحصيها، لأن هذه الثروة من الضخامة والسعة بحيث لا تسلس قيادها لمن يريد حصرها أو إحصاءها وإن أكثر مواد اللغة العربية غير مستعملة، وكثير منه غير معروف [9] قال الكسائي: (قد دَرَس من كلام العرب كثير) [10].


وقال أبو عمرو: (ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير) وذكر الزبيدي في مختصر العين أن عدة مستعمل الكلام كله ومهمله ستة آلاف ألف وتسعة وخمسون ألفا وأربعمائة (6059400) والمستعمل منها خمسة آلاف وستمائة وعشرون (5620) والمهمل ستة آلاف ألف وستمائة ألف وثلاثة وتسعون (6600093)، وذكر عبد الغفور عطار أن المستعمل في العربية في عصرنا الحاضر لا يكاد يزيد على عشرة آلاف مادة مع أن الصحاح للجوهري يضم أربعين ألف مادة، والقاموس ستين ألف مادة، والتكملة ستين ألف مادة، واللسان ثمانين ألف وأربعمائة، والتاج عشرين ومائة ألف مادة [11]، حتى قال ابن فارس فأين لسائر الأمم ما للعرب [12].


ومع أن المستعمل من مواد اللغة العربية ليس إلا أقل القليل منها فإنها لم تضق عن حاجة الإنسان، وتجاربه، وخواطره وعلومه، وفنونه، وآدابه، بل وسعت روافد الحضارة والعلوم غير المعروففة عند العرب في أزهى العصور الإسلامية [13].



انتشار اللغة العربية:


لقد كان المسلمون في القرون الأولى يفتتحون الدول، ويُمَصِّرُونَ الأمصار، وينشرون الإسلام، والداخلون في الإسلام من غير العرب يتعلمون العربية حتى يعقلوا كلام الله - تعالى - وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويتعلموا أحكام الإسلام، فعمت اللغة العربية أقطار الأرض، وصارت لسان أكثر البشر ولغة التخاطب والعلم الرسمية فيما بين الأمم، حتى التي لم تدخل في الإسلام، ولقد عجب مؤرخو أوربة من انتشار هذه اللغة في الأرض، وغزوها للشعوب الغربية، قال المؤرخ الغربي رنان: من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدت فجأة على غاية الكمال سلسة أية سلاسة غنية أي غنًى، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، إلى أن قال: فإن العربية ولا جدال قد عمت أجزاء كبرى من العالم ولم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة أو لسان فكر ديني أو سياسي أسمى من اختلاف العناصر إلا لغتان: اللاتينية واليوناينة، وأين مجال هاتين اللغتين في السعة من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها ا.هـ [14]، ويقول جورج سرطون: وأصبحت العربية في النصف الثاني من القرن الثامن للميلاد لغة العلم عند الخواص في العالم المتمدن، وصارت حاملة علم التقدم الصحيح وحافظت على تفوقها وتصدُّرها في المرتبة الأولى بين جميع الألسن الأخرى إلى القرن الحادي عشر على أقل تقدير ا.هـ [15].



مفاخرة شباب أوربة بالعربية:


لقد مضى على العربية زمان كان شباب أوربا يفاخرون بتعلمها وينافسون أقرانهم في إتقانها، حتى أصدرت الكنيسة قرارًا قالت فيه: إن هؤلاء الشبان الرقعاء الذين يبدؤون كلامهم بلغات بلادهم، ثم يكملون كلامهم باللغة العربية لنعلم أنهم تعلموا في مدارس المسلمين، هؤلاء إن لم يكفوا عن ذلك فستصدر الكنيسة ضدهم قرارات حرمان [16]. ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى؛ لأنهم زهدوا في اللغة اللاتينية، ونشأ لهم غرام بالعربية، فأخذوا يتقنون آدابها، ويتغنون بأشعارها، ويكتبون بها كأبنائها، ويعجبون ببلاغتها إعجاب أهلها بها [17].


قارن أيها القارئ، هذا بحال كثير من أبناء المسلمين اليوم الذين زهدوا في لغتهم لغة القرآن، وولوا شطرهم إلى الغرب بلغاته المختلفة يلوون ألسنتهم بلغات أجنبية يخلطون بها عربيتهم؛ ليبرهنوا على أنهم مثقفون ومتحضرون، في عصر كثر فيه المنهزمون مع أنفسهم، وقل الواثقون بتراثهم وحضارتهم، فإلى الله المشتكى، ونسأله - تعالى -أن يعصمنا من الزيغ ومن التقليد الأعمى.



المؤامرات على العربية:


اللغة العربية ظلت قوية ثابتة، وستظل كذلك إلى أن يشاء الله - تعالى -، لقد تآمر عليها أعداء كُثُر من الشعوبيين القدماء، والمستشرقين أيام الاستعمار الأجنبي للبلاد الإسلامية، حيث حاولوا إلغاء اللغة العربية، واستبدالها بلغات أجنبية إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل، ثم ظهر أفراخ الغرب وعملاؤه في بلاد المسلمين ليقوموا بذات المهمة عن طريق إحياء اللغات البائدة من الفرعونية، والكردية، و الأمازيغية وغيرها، وتمجيد اللهجات العامية، والشعر العامي، وإفساد الذوق العربي بهدم أوزان الشعر، والولوغ في الطلاسم والرمزية باسم الحداثة والتجديد، والدعوة إلى إلغاء الإعراب والحركات، وتسكين أواخر الكلمات، وكل محاولة منها تفشل بعد الأخرى، ويُقَيِّضُ الله - تعالى -رجالاً يُنَافِحُون عن لغة القرآن، ويَرُدُّونَ كَيْدَ الأعداء.


يقول الكاتب الغربي ميليه: إن اللغة العربية لم تتراجع من أرض دخلتها، لتأثيرها الناشئ من كونها لغة دين، ولغة مدنية، وعلى الرغم من الجهود التي بذلها المبشرون، ولمكانة الحضارة التي جاءت بها الشعوب النصرانية، لم يخرج أحد من الإسلام إلى النصرانية [18].



وجوب تعلم العربية:


إن لغتنا جزء من ديننا، بل لا يمكن أن يقوم الإسلام إلا بها، ولا يصح أن يقرأ المسلم القرآن إلا بالعربية، وقراءة القرآن ركن من أركان الصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام، ولذا فإن العناية بتعلمها وإتقانها مطلوبة مرغوب فيها من أجل إقامة شعائر الإسلام وفهم نصوص الكتاب والسنة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: (ومعلوم أن تَعَلُّمَ العربية وتعليم العربية فرضٌ على الكفاية وكأن السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرِكَ الناس على لحنهم كان نقصًا وعيبًا، فكيف إذا جاء قوم إلى الألسنة العربية المستقيمة، والأوزان القويمة فأفسدوها بمثل هذه المفردات والأوزان المفسدة للسان، الناقلة عن العربية العرباء إلى أنواع الهذيان الذي لا يَهْذِي به الأقوام من الأعاجم الطماطم العميان) اهـ [19].


وينبغي لمن دخل الإسلام من الأعاجم أن يتعلم العربية فقد سمع عمر - رضي الله عنه - رجلاً يتكلم في الطواف بالفارسية فأخذ بِعَضُدِهِ وقال: ابتغ إلى العربية سبيلا [20] قال عطاء: رأى عمر بن الخطاب رجلين وهما يَتَرَاطَنَان في الطواف فعلاهما بالدِّرَّةِ وقال: لا أُمَّ لكما، ابتغيا إلى العربية سبيلا [21].



وعلي - رضي الله عنه - ضرب الحسن و الحسين على اللحن [22].


وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ [23].


14/1/1426



_______________________________________


(1) التحرير والتنوير لابن عاشور (21/73).


(2) الصاحبي لابن فارس / 19.


(3) أخرجه أحمد في المسند من حديث أبي ذر - رضي الله عنه - (5/185) وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير (7357) ثم الألباني في صحيح الجامع (5179).


(4) التحرير والتنوير (13/187).


(5) المصدر السابق (13/187).


(6) الصاحبي / 19.


(7) فصول في فقه اللغة العربية لرمضان عبد التواب (90).


(8) الرسالة للإمام الشافعي (42) والمزهر للسيوطي (1/37) وتاج العروس (1/16-17) والصاحبي (36) وقال بعض الفقهاء: كلام العرب لا يحيط به إلا نبي، قال ابن فارس: وهذا كلام حري أن يكون صحيحًا وما بلغنا عن أحد ممن مضى أنه ادعى حفظ اللغة كلها.


(9) انظر: مقدمة عبد الغفور عطار على الصحاح للجوهري / 23.


(10) لسان العرب (1/431).


(11) نزهة الألباء (33) وانظر الصاحبي (36) ومقدمة الصحاح / 23.


(12) الصاحبي (22). 13) مقدمة الصحاح / 24.


(14) انظر كتابه: تاريخ اللغات السامية، ونقله عنه محمد كرد علي في كتابه الإسلام والحضارة الغربية (1/172-173).


(15) انظر مقالته: العلوم والعمران في العصور الوسطى عن المصدر السابق (1/173).


(16) عودة الحجاب للشيخ محمد إسماعيل المقدم (2/30).


(17) انظر: غرائب الغرب لمحمد كرد علي (2/134) والإسلام والحضارة الغربية (1/177).


(18) انظر كتابه: اللغات في أوربا الحديثة، عن الإسلام والحضارة العربية (1/177).


(19) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (32/252).


(20) أخبار النحويين لعبد الواحد بن عمر /25.


(21) التمهيد للعطار / 10 عن مجلة الحكمة (11/413).


(22) الجامع لأخلاق الراوي للبغدادي (2/85).


(23) الأضداد للأنباري (244) وانظر مجلة الحكمة (11/411).

تعديل صفحة…

هل تريد التعليق على التدوينة ؟