لماذا اللغة العربية ؟!


بسم الله الرحمن الرحيم

لماذا اللغة العربية ؟!





إِن واقع اللغة العربية اليوم يتأثَّر كثيراً بواقع المسلمين، فهي تقوى بقوّتهم وتضعف بضعفهم، ولكنها تبقى في الميدان تصارع التحدِّيات، تبقى حيَّةً بكل خصائصها مهما ضُيِّق عليها أو غزاها الظالمون، ومهما اشتدَّ المكر والكيد لتوهينها أو عزلها عن الميدان.

وجميع اللغات تخضع إلى هذه القاعدة، فهي تقوى بقوّة أُمَمِها وتضعفُ بضعفها، ولكنها لا تستطيع كلُّها الصمود أمام التحديات التي تظهر أمامها. ويضرب لنا التاريخ أمثلة كثيرة على لغات وقفت ثم تراجعت، وعلى لغات أصبحت مجرّد تاريخ، وعلى لغات بادت مع شعوبها.


واختلاف اللغات بين الأُمم والشعوب آية من آيات الله، تحمل العبرة للتأمل والتدبر: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) [الروم: 22]

ولكنّ اللغة العربية تميّزت بخصائص لم تتوافر لأي لغة أُخرى. إِنها تميّزت بخصائص وهبتها القدرة العظيمة على الصمود أمام التحدّيات حيّة قوية، تدفع وتدافع وتصارع. وبعض هذه الميّزات ينبع من إمكاناتها الذاتيّة التي وهبها إياها الله من خلال مراحل تاريخها ونموّها، ومنها ما هو نعمة من الله عليها وعلى المسلمين وعلى الناس كافة، حين اختارها الله لغة رسالته إِلى عباده ولغة دينه، وحين تعهَّد الله بحفظ الذكر الذي نزل بها.

وتمرّ اللغة العربية اليوم بتحدّيات وصعوبات نابعة من واقع المسلمين، فلقد فقد الكثيرون من المسلمين اليوم الحافز الإيماني لتعلّم اللغة العربيّة. ظنّ بعضهم أنه يمكن الاستغناء عن اللغة العربية، وأنه يمكن دراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة بأي لغة أُخرى إذا تُرجِما إليها. فضعفت النية والعزيمة لتعلّم لغة القرآن الكريم والتمسك بها في مناطق كثيرة في العالم الإسلاميّ، مع ما أخذ المسلمون يعانـون منه من غزو كاسح وفواجع ومآسيَ، وهزائم في أكثر من ميدان.

ولقد تبع هذه الظاهرة وصاحبها ضعف في التصور الإيماني والتوحيد وضعف في تدبّر منهاج الله وفهمه وممارسته في واقع الحياة.

وقد أدرك الأعداء أهمية اللغة العربية وخطورة منزلتها في الإسلام وفي فهم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فكان من أهم محاولاتهم إِضعاف صلة المسلم بلغته العربية، وإِضعاف شعوره بضرورة التمسك بها، وطَرْح أفكار غريبة مريبة تصرف المسلم عن لغة دينه ورسالته في الحياة. واستمرت هذه المحاولات قروناً واستغرقت جهوداً كثيرة، ومتابعةً متواصلةً دون ملل. فَطُرِحَتْ أفكار لتغيير قواعد اللغة العربية أو بعضها، وأفكار لتغيير أحرفها وكتابتها، وأفكار لتغيير الشعر العربي. وكانت هذه المحاولات والأفكار التي تُطْرَح مرتبطة بسائر المناهج والتخطيط الذي يضعونه لغزو العالم الإِسلامي، وتدمير طاقاته الإِيمانية والفكرية والبشرية وغيرها.

لعل هذا الواقع المؤلم لم يشهد مثله تاريخ المسلمين الطويل، ولا انحسرت اللغة العربية مثل انحسارها اليوم. ولكننا نسرع بالقول لنبيّن ونؤكد أنها مازالت صامدة في الميدان تجابه التحدّيات كلها، وأنها ستنتصر، وينتصر المسلمون، وتعلو كلمة الله لتكون هي العليا، تدوّي بها اللغة العربية: الله أكبر، الله أكبر!

لم يكن المسلمون يسنّون قانوناً عسكرياً أثناء فتوحاتهم يفرضون على الناس به تعلّم اللغة العربية. لم يكن انتشار اللغة العربية في الأرض انتشار قسر وقهر. لقد أقبلت الشعوب كلها على تعلم اللغة العربيّة إقبال شوق ورغبة، بعد أن أسلمت وآمنت، وبعد أن عرفت من إيمانها وإسلامها منزلة اللغة العربية في الإسلام. وظلت اللغة العربية تنتشر بين الشعوب سواء أكان المسلمون منتصرين أم مَهزومين. ونَبَغ من الشعوب غير العربية عباقرة في اللغة وأئمة فيها، حين قدم الإِسلام للشعوب رسالته الربانيّة، رسالة الإِيمان والتوحيد، وحين تساوت الشعوب في ظلال هذه الرسالة وفي ظلال العبودية لله رب العالمين. (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) [الحجرات: 13]

ويوم فتح مكة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب" (1).

وفي حجة الوداع خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فكان من بين ما قاله: "أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجميّ فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟! اللهم اشهد! قالوا: نعم. قال: فليبلِّغ الشاهد الغائب". (2).

فلم يكن انتشار اللغة العربية بين الشعوب إلا بحافز إيماني، يزيده قوة ووضوحاً امتداد السلطان والنفوذ، وامتداد الدعوة الإسلامية في الأرض. وأصبحت اللغة العربية أحد العوامل الجامعة للأمة المسلمة، وستظل كذلك على مدى التاريخ.

ولكننا اليوم نشهد واقعاً جديداً يحمل من التحدّيات الشيء الكثير. فقد انحسر سلطان المسلمين، وتمزّقت ديارهم، ومُنُوا بالهزائم تلو الهزائم، وغلب الأعداء على مواقع كثيرة، وأخذ الإيمان يضعف في بعض النفوس، والعلم بمنهاج الله يجفّ ويبهت، حتى غلب الهجر لمنهاج الله لدى كثير من المسلمين: (وقال الرسول يا ربِّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً) [الفرقان: 30]

وامتدت الفتنة في كثير من ديار المسلمين، وأخذت الفتنة أشكالاً مختلفة متعددِّة، وتسلَّل الإِحباط إِلى نفوس كثيرة. وتبع ذلك كله ضعف عام لدى المسلمين في اللغة العربية!

فلقد انتشرت اللغات العامية ولهجاتها، وأصبح العامة من العرب أنفسهم لا يعرفون اللغة العربية الصحيحة، ولا يعرفها كذلك كثير من المثقفين العرب.

وانتشرت الأخطاء اللغوية في بعض الصحف والمجلات، والكتب وبعض الإذاعات. وفي مناطق كثيرة في العالم الإسلامي غلبت اللغات القومية وانحسرت اللغة العربية أو اختفت، وضعف الشعور باحترامها وتقدير منزلتها في دين الله، وضعف الحافز الإيماني والوعي الإسلاميّ بضرورة تعلمها، وضعفت النيّة تبعاً لذلك وهبطت الجهود. وقد ترى الرجل المسلم ينال أعلى الدرجات العلمية في أبواب شتى من العلوم، ويتقن من أجل ذلك اللغات الأجنبية ويبذل الجهد الكبير من أجل إتقانها، حافزهُ في ذلك الدنيا ونيـل الشهادة وما يتبعها من مصالح دنيوية، ولا يجد في نفسه الحافز الإِيمانيّ لدراسة اللغة العربية، ولا الحافز الدنيوي.

وقد تجد المفكر المسلم أو الأديب يصبّ فكره وأدبه بلغة أجنبية عنه وعن قومه وعن دينه، أو بلغته القومية، بعد أن هبط الشعور والإحساس بضرورة تعلم اللغة العربية، وهبط الحافز الإِيمانيّ أو اختفى.

ونجد في بعض أقطار العالم الإسلامي أن اللغة العربية قد اختفت، واختفت حروفها وقواعدها. ونجد أن اللغة الأجنبية، لغة المحتلّ الظالم الطاغي الذي يحارب الإسلام، سادت في هذا البلد الإسلاميّ أو ذاك. وانتشرت مع هذه الظاهرة بعض العصبيات الجاهلية، وبهتت روح الإيمان والاعتزاز بمقوّمات الإسلام ولغة القرآن والوحي.

ونجد كذلك أن بعض المسلمين لا يتكلمون اللغة العربيّة في المؤتمرات العلميّة أو الإسلامية أو الدولية، بينما نجد آخرون يلتزمون لغتهم القومية في مثل هذه المؤتمرات.

وتنحسر اللغة العربية في الفنادق والمطاعم وغيرها من مواقع السياحة في كثير من أقطار العالم الإسلامي، وتنحسر كذلك في اللافتات على المحلات التجارية والصناعية وغيرها من المراكز العلميّة والإعلامية.

ومع هذا الانحسار الشديد فإن اللغة العربيّة واجهت هذه التحدّيات بقوة وثبات وصمود، وسجّلت انتصارات كثيرة في مواقع عديدة. فهناك مسلمون في كلّ بلد إسلامي يصرّون على تعلم اللغة العربية وعلى استخدامها، سواء أكان ذلك في بلادهم أم في بلد عربيّ يرتحلون إليه لدراسة الإِسلام ودراسة اللغة العربية.

إنهم يفعلون ذلك بحافز إيماني واع ومبادرة ذاتية. فهذه الجامعات الإسلامية في المملكة العربية السعودية تضمّ الشباب المسلمين من أقطار شتى من العالم الإسلامي، وكذلك جامعات بعض الأقطار العربية الأُخرى. وترى بعض المسلمين يصرّون على حفظ القرآن الكريم باللغة العربية دون أن يعرفوا اللغة العربية، إِنها ظاهرة تدلّ على إصرار المسلم على اللغة العربية وارتباطها بالقرآن الكريم، وتدل على مجابهة التحدّيات الشديدة التي برزت في العصر الحاضر.

وهناك مواقف كثيرة تدلّ على صمود المسلمين أمام التحدّيات القائمة، وتدل على وعيهم لمنزلة اللغة العربية في الإسلام. وإننا ندعو الله أن تنمو هذه المواقف وتمتد وتنتشر ليعمّ هذا الوعي جميع المسلمين.

إن أعداء الله لم يلقوا سلاحهم، ولم يوقفوا مكرهم ضد الإسلام والمسلمين وضد اللغة العربية، بل على العكس من ذلك، فإنهم يطوّرون أساليبهم وكيدهم دون ملل أو يأس. وعسى أن يردّ الله مكرهم إلى نحورهم، وعسى أن يصبح ما ينفقون من أجل ذلك حسرة عليهم: (...ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) [الأنفال: 30] (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثمّ يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون) [الأنفال: 36]

ولكن يجب علينا أن نضع نهجنا نحن المسلمين، وأن نفصّل التخطيط لحماية اللغة العربية وإعزازها وإعلاء كلمة الله في الأرض.ومن أجل ذلك يجب أن تعرف الناشئة منزلة اللغة العربية في دين الله، وواجبها الشرعي على ضوء ذلك.

لقد كانت اللغة العربية لغة العرب وحدهم قبل أن يبعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - وقبل بدء الوحي. فمن اللحظة التي نزل فيها الوحي على النبيّ الخاتم باللغة العربية واختار الله - سبحانه وتعالى - هذه اللغة العظيمة لتكون لغة الوحي والنُبَّوة، ولغة القرآن الكريم، منذ تلك اللحظة أصبحت اللغة العربية هي لغة رسالة الإسلام، لغة الأمة المسلمة مدى الدهر، لغة كل مسلم.

لقد نمت اللغة العربية من خلال تاريخ طويل مرّت به الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق. واستقرت على صورة من القواعد والبناء والبيان في نثرها وشعرها، وتحدّدت مفهومات مصطلحاتها وتعبيرها، وأساليب بيانها، حتى تميّزت بذلك كله بروعة البيان وجمال التعبير وأسر الكلمة، وعبقرية شعرها وحرفه بالوزن والقافية، وحتى أصبحت هذه اللغة العظيمة غنيّة بكلماتها ومشتقاتها وقواعدها وبلاغتها. وأصبحت غنية بنغمتها وموسيقاها، وأصبح البيان يهزّ العربي وغير العربي ممن عرف العربيّة وأتقنها، وأصبحت اللغة كنزاً في حياة العربيّ تؤثر في فكره ونهجه، وأصبح الشعر ديوان العرب، وأجمع رجال العربيّة أن الشعر شَرُفَ بالوزن والقافية، كما يرد هذا التعريف في المعاجم.

فما نزل الوحي الكريم من عند الله باللغة العربية إلا بعد أن بلغت اللغة نضجها واستقرّت بها قواعد الإسلام وآيات الكتاب المجيد وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأصبحت اللغة العربية تتميزّ " بجوامع الكلم "، مما لا يتيسرّ في لغة أخرى، حتى كان من خصائص النبيّ الخاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتي جوامع الكلم. فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أُعطيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه" [رواه أحمد وابن عمرو] (3)

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "نصرتُ بالرعب وأعطيت جوامع الكلم" [رواه أحمد](4)

وجاء القرآن الكريم ليبيّن منزلة اللغة العربية في الإسلام، وليبيّن أن اللغة العربية من خصائص منهاج الله وأنها منه: (ألر تلك آيات الكتاب المبين. إنا أنزلناه قرآناً عربيّا لعلكم تعقلون) [يوسف: 2، 1]

وكذلك: (وإنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربيّ مبين) [الشعراء: 192ـ 195]

ويؤكد القرآن الكريم هذه الحقيقة الهامة في عدد غير قليل من سوره: النحل، فصّلت، طه، الزمر، الشورى، الزخرف، الأحقاف، ومع كل تأكيد ظِلٌّ جديد، ففي سورة الرعد يأتي ظل ممتد مع التشريع والحكم الذي تتسع له اللغة العربية:

(وكذلك أنزلناه حكماً عربيّاً ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من وليٍّ ولا واق) [الرعد: 36]

ويرتبط معنى الوضوح واستقامة المعنى والبيان والتشريع والعلم باللغة العربية التي توفِّر هذا كله في سورة الزمر: (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكّرون. قرآناً عربيّاً غير ذي عوج لعلهم يتّقون) [الزمر: 28، 27]

ولو تابعنا جميع الآيات الكريمة لوجدنا ظلاً يمتدُّ إلى ظلٍ يؤكد عظمة منزلة اللغة العربية في القرآن الكريم، وتبعاً لذلك في الإسلام.

ولقد جاءت رسالة الإسلام ونزل الوحي الأمين باللغة العربية ليخاطب القرآن الكريم شعوب الأرض كلها بمختلف أجناسها وأعراقها ولغاتها بهذا اللسان العربي المبين. فانتقلت اللغة العربية مع أول آية نزل بها الوحي نقلة واسعة هائلة تملأ العصور والأقطار والشعوب.

وحسبنا، لنعلم عظمة هذه اللغة، أن ندرك أن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي اختارها واصطفاها ورضيها لكتابه ودينه ولعباده المؤمنين، فوسعت كتاب الله آياً وحكمة وبيانـاً معجزاً، يتحدّى العربَ أولاً، أهل الفصاحة والبيان، أن يأتوا بمثله، ويتحدى الناس كلهم ويتحدّى الإِنس والجنّ.

فأصبحت اللغة العربية لغة العبادة والطاعة في الصلاة وسائر الشعائر، ولا يُعتبر القرآن قرآناً إذا نُقل إلى لغة أخرى. إنما هو باب من أبواب التفسير غير الدقيق، يصلح لينقل بعض المعاني ولا يصلح لينقل الإِعجاز والمنهاج الرباني. ونعتقد أنه يستفاد منه مرحلياً، حتى إذا آمن القلب وأسلم الإنسان هرع إلى دراسة اللغة العربية، ليدرك فضل الله ونعمته على عباده باصطفائه هذه اللغة العربية لكتابه ولدينه.

ومن هنا ندرك مسؤوليتنا في توفير الفرصة الكاملة للإنسان ليأخذ دينه من كتاب الله باللغة العربية كما أُنزل من عند الله. فهذا واجب على المؤمنين وحقٌّ لكل إنسان.

ومن هنا ندرك مسؤوليتنا في أن ننمّي لدى المسلمين خاصة والناس عامة الشعور والإحساس بضرورة دراسة اللغة العربية، حتى يفقهوا كتاب الله وسنة نبيه، وحتى نكون أوفينا البلاغ بما أُنزِل وأدّيْنا الأمانة. فقد أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ الناس كافة ما أُنزل إليه، فإن لم يفعل ذلك فلا يكون قد بلّغ رسالته: (يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربك وإن لم تفعلْ فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) [المائدة: 67]

فقد حملت اللغة العربية بفضل من الله: تمام البلاغ وكماله، والإنذار والبشْرى، والرحمة للعالمين، والعلمَ الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والبيان المعجز الميسَّر للذكر، والهدى والنور والشفاء، والموعظة والحكمة، والقول الفصل!.

لذلك نرى أن اللغة العربية جزء لا يتجزّأ من منهاج الله، فبغيرها لا يكون الكلام كلام الله ولا كلام رسوله، ولا هو البلاغ المبين.

ونرى كذلك أنه من واجب كل مسلم أن تكون اللغة العربيّة هي لغته الأولى بالإضافة إلى لغته القومية.

ومما يؤكد هذه الحقيقة الهامة أنه عند نقل القرآن والسنة إلى لغة أخرى غير العربية فإن المعاني لا تُسْتَوفَى كما هي مستوفاة باللغة العربية، وإن الإعجاز الذي يحمله منهاج الله والذي تحدّى به العرب والإِنس والجنّ يفقد كثيراً من خصائصه، وإِن البيان المعجز المؤثر في النفس يختفي معظم تأثيره ولا يبقى الكلام عندئذ كلام الله، ولا القرآن قرآناً، ولا التلاوة تلاوة. وفي اللغة العربية، وألفاظ القرآن وتعبيراته بها، ما يتعذّر نقله إلى لغة أخرى. فكلمة الولاء، وآية، الإحسان، التقـوى، عَرَض هذا الأدنى، قدم صدق، وأملي لهم، إمام، عاكفين، وكلمات كثيـرة، وتعبيرات قرآنية كثيرة أعجزت العرب أن يأتوا بمثلها، فأنّى للغات غير العربية.

ولّلغة العربية جمال متميّز عن سائر اللغات. إنه جمال الوضوح والدقة في المعنى، وجمال الظلال الموحاة، وسائر أبواب الجمال الذي كشف عن بعضه العلماء المسلمين في تاريخ طويل. وسيظل الجمال متجدّداً تتفتح أبوابه مع الأيام. ولا تنطبق قواعد الجمال في اللغات الأُخرى على قواعد اللغة العربية، فلّلغة العربية جمال آسر هزّ جميع من درسها وعرفها. ولقد هزّت الأدباء والشعراء وهزّت الشعوب.

ولقد تحدّدت مصطلحاتها اللّغوية، حتى تستقرَّ أحكام الإِسلام وتشريعه على قواعد راسخة، وحتى تستوفي اللغة أسباب الوضوع والدقة والجمال. ولقد استقرّ مفهوم النثر ومفهوم الشعر، حتى لا يختلط الكلام، وحتى يتمايز كلام الله، وحتى تستقيم المعاني.

لذلك نرى أن اللغة العربية هي اللغة الأُولى للأدب الملتزم بالإسلام، الأدب الذي يريد أن يرقى من مراتب الجمال إلى مراتبه العالية.

ونرى أن اللغة العربيّة هي اللغة الرسمية للأمة المسلمة كلها، يخطئ من يستبدل بها غيرها، وأن واجب الأمة المسلمة وعلمائها ودعاتها وقادتها أن يبذلوا غاية جهدهم في هذا السبيل، فإنها عهد وأمانة.

ولقد تعهَّد الله - سبحانه وتعالى - بحفظ الذكر الذي أنزله على رسوله ونبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا يعني أنه تعهَّد بحفظ دينه و قرآنه وسنّة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، واللغة العربية التي هي وعاء الذكر كله وبيانه ومادته: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9]

ولكنه ابتلاء من الله - سبحانه وتعالى - ليمحّص عباده المؤمنين، وليرى من يوفي بالعهد والأمانة، ومن ينهض للغة دينه و قرآنه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومن يتوانى أو يدبر، ويمضي الابتلاء على سنن لله ماضية، وحكمة بالغة وقدر وغالب.  ولن يستطيع الناس أبداً أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ويمضي هذا التحدّي مع الدهر: (قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) [الإسراء: 88]

وكذلك: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) [هود: 13]

وكذلك: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة: 23]

وأمام هذا التحدّي: (فإن لَم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) [هود: 14]

فليمض المسلمون إلى نصرة ربهم ونصرة دينهم واللغة التي اختارها الله لدينه، فليمضوا وهم مطمئنون إلى أن الله ناصر دينه ولغة دينه، وأنهم مبتلون. فليسعوا إلى النجاة في الدنيا والفوز في الآخرة. والحمد لله رب العالمين.


____________________________________
(1) أحمد زكي صفوت: جمهرة خطب العرب: (ج: 1)، (ص: 154).
(2) المرجع السابق: (ص: 157).
(3) صحيح الجامع الصغير وزيادته: 1/350/1069.
(4) الفتح الرباني: 22/41/732.

تعديل الرسالة…

تعليق واحد على { لماذا اللغة العربية ؟! }

غير معرف يقول...
11 فبراير 2017 في 3:50 م [حذف]

ارجوا الرد مامعنى اللغة السريانية بليز

هل تريد التعليق على التدوينة ؟