وقفة .. مع الحداثة العربية


الدكتور عدنان علي رضا النحوي

لقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة لدى عدد من الكتَّاب المسلمين في مواقع مختلفة من العالم الإسلامي عن "الآخر"، بحيث أصبح من الحق أن نتساءل لماذا هذا الحرص على الآخر، والآخر ليس بحاجة إلى حرصنا عليه، ولا هو حريص علينا. ولماذا تُثار هذه القضية والآخر يدير المجازر في ديارنا غير عابئ بأحد.

فمن قائل يجب أن نقسط مع الآخر، ومن قائل يجب أن نعترف به. ونتساءل ولِمَ لَمْ يكن الأمر على عكس ذلك بأن يقسط الآخر معنا ويعدل معنا، فهو الظالم المعتدي المنِكر لحقوقنا. ومن قائل يجب أن ننفتح عليه ! وهل هناك انفتاح أكثر مما نحن فيه، فُتِحَتْ له القلوب والديار ! إنَّ الآخر بجميع صوره وأشكاله لم يجد في تاريخه أرحم ولا أعدل من الإسلام.
نحن المسلمين اليوم نجابه أخطاراً تحيق بنا من كلّ ناحية. وإن أبسط أنواع التفكير يجب أن تدفعنا جميعاً لندرس نهجاً عمليّاً يعين الأمةعلى الخروج مما يُكاد لها ويُمْكرُ بها، و" الحداثة " لا تُقَدِّمُ لنا النهج والخطة، لا لفظاً ولا معنىً.


إننا بحاجة إلى أن نضبط فكرنا ونهجنا بقواعد الإيمان وحقائق الإسلام ونور الكتاب والسنّة، وفيه كلُّ ما يعين ويُنير الدرب والطريق.
يجب أن لا يدفعنا الإحباط و"الهوان" إلى أن نتلمس النجاة عند "الآخر"، إن سبيل النجاة بيّنه الله لنا وفصَّله، ليبتدئ من ذاتنا حين نتجه إلى الله ونغيُّر ما بأنفسنا، ولننطلق على صراط مستقيم.


إنَّ الإسلام، والإسلام وحده، مصطلحاً ومعنىً ونهجاً، هو الذي يُعلّمنا كيف نحترم أنفسنا وكيف نقسط مع أهل الأرض كلّها، وكيف نتعامل مع شعوب الأرض نحمل رسالة الله، نبلّغهم إياها ونتعّهدهم عليها، بها نخاصم وبها نرضى وبها نتعاون.
مهما شعرنا بعجزنا وضعفنا وهواننا، فإن لحظة الرجوع الصادق إلى الله تحيي في نفوسنا الأمل، وتبعث فينا القوة والعزيمة، وترسم لنا الدرب والأهداف والوسائل والأساليب، في صورة عبادة لله، ووفاء بالأمانة التي حملها الإنسان والتي سيحاسَبُ عليها بين يدي الله.
ولقد كثر الحديث عن " الحداثة " في المجتمعات الإسلامية وطال مداه زمناً غير قليل، والمسلمون في جدال بين رافض وقابل وراغب على استحياء وبين مَنْ يحاول استحداث حداثة راشدة لتقاوم " الحداثة الهجينة " الزاحفة.
خلال ذلك كله، والمسلمون في جدل وحوار، استطاعت " الحداثة الهجينة" اقتحام أسوار الأمة والنفاذ إلى مواقع شتى والتسلّل إلى قلوب كثير من الناس في أقطار شتى من العالم الإسلامي، وتثبيت أقدامها في المواقع: في الإعلام والأدب والفكر. وهذا هو العالم الإسلامي أمامكم !
ولم تكن " الحداثة " وحدها تصارع، وإنما كان معها العلمانية الزاحفة علينا بوسائل الإعلام، ومعها الأدب العلماني والفكر العلماني، ومعها المؤسسات الدولية الداعمة لها، والجيوش الزاحفة كذلك، قوى كثيرة تتساند في هذا الصراع بين أمواج الدماء وتطاير الأشلاء والجماجم في ديار المسلمين المختلفة.
ولقد نهجت هذه القوى " الحداثية العلمانيّة " خطة مكر أصابت نجاحاً، حيث استفادت من ضعف المسلمين وجهلهم بحقيقة إسلامهم، وكثرة تنازلاتهم، وميلهم إلى المهادنة، أو الاستسلام. فسارت على خطّة شيطانيّة حذَّرنا القرآن الكريم منها بقوله سبحانه وتعالى:
( يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحدٍ أبداً ولكنَّ ا لله يُزكّي من يشاء والله سميع عليم)  [النور: 21]


سياسة الخطوة خطوة! سياسة ماكرة كان قد صرَّح بها كسينجر وزير الخارجية الأمريكي حتى أصبحت خصيصة من خصائص سياسته. وهي سياسة يعتمدها المعتدي في فرض أفكاره وآرائه، وسياسة يعتمدها المعتَدَى عليه في تنازله. فالمعتدي الغازي يطرح بعض أفكاره ومصطلحاته، فَتُرْفض أولاً بضجيج عالٍ وغضبة هائلة. ثمَّ يصرُّ المعتدي ويضاعف جهده ولا يتراجع، حتى يرى بعض الرافضين بدؤوا يستحسنون بعض فكره ومصطلحه، ثم ينتقلون إلى التأييد والبحث عن المسوّغات، فيطرح المعتدي فكره بصورة أوسع مع ما يملكه من زخارف وزينة، أو تهديد وتحذير. حتى نجد من أصبح داعية لفكره لا يقف عند حد التأييد. هذه الصورة واقعية نشهدها جليّة في كثير من ديار المسلمين، حتى أصبحت العلمانية والحداثة الهجينة هي نهج مطبق في دارٍ ودارٍ ودارٍ. والصورة تتكرر: رفض، استحسان، تأييد، دعوة ودعم. فحشدوا لذلك جنوداً كثيرين ظاهرين ومستترين. خطوة خطوة في التنازل أيضاً.

عندما ظهرت الاشتراكية وقعت هذه الخُطا الشيطانية حتى صرنا ننادي "بالاشتراكية الإسلامية". وكذلك مع الديمقراطية ! أُلّفت كتب تقول إنها إسلامية، ودعوا إلى "الديمقراطية الإسلامية"، دون أن يجدوا شعاراتها المزخرفة مطبقة في ديار أصحابها ولا في ديار تابعهيم.

أين الديمقراطية ؟! لقد تكّشفت في أحداث واقعية وتبيّن أنها أشدّ أنواع الديكتاتوريات: إما أن تقبل ما أفرضه عليك، وإما أنت عدوٌّ ستُقْتل وتُسْتَباح ديارك وأموالك وأعراضك ! إنك إرهابيّ !


وجاءت العَلْمانية Secularism، والعِلْمانيّة Scientism، فنشط بعض المسلمين ليجعلوا منها "علمانية إسلامية". وكأننا كلما جاء من الغرب فكر ومصطلح هرعنا إليه لنضع على المصطلح طلاء إسلامياً يُخْفي سوءاته. ولكن السوءاتِ تظل تتكشَّف مهما وضعت من طلاء !

وجاءت "الحداثة" كذلك، فمرت بنفس مراحل خطوات الشيطان، حتى أصبح من بين المسلمين دعاةٌ صريحون يدعون إلى حداثة الغرب.

كنتُ في أحد البلاد العربية أتحاور مع داعية مسلم يقول: ما رأيك، حتى نحارب الحداثة نأخذ بعض أفكارها ومصطلحها ونتألفهم بذلك على الإسلام!

فقلت له: أخشى أن تصبحوا أنتم حداثيين، والحداثيون يُصرُّون على حداثتهم ويرفضون إسلامكم، لتبنِّيكم شعاراتهم وأفكارهم ! ومصطلحاتهم.


وفي لقاء مع دعاة إسلاميين أخذوا يهاجمون شعر الأستاذ عمر بهاء الأميري وآخرين، ولما سألتهم من الشاعر الذي يعجبهم ! قالوا: محمود درويش!
فقلت أهذا الذي يقول: "… وفي سنة 1961م دخلتُ الحزب الشيوعي، فتحدّدت معالم طريقي".
وينسى الذين يتغنّون بشعره قولَه: "نامي فعين الله نائمة وأسرار الشحارير"!

في مواقف كثيرة رأينا كيف أن بعض المسلمين استُدْرِجوا خطوةً خطوةً حتى أصبحوا دعاة للاشتراكية والديمقراطية والعلمانية والحداثة. ولقد بلغ الأمر أحياناً إلى عدم استحسان نقد الحداثيين أو فكرهم أو مصطلحهم، وإلى أن أصبح بين أيدي الحداثيين والعلمانيين إعلام واسع.


وبين يدي مقالة أخي د. وليد قصّاب في مجلة الحرس الوطني العدد (262) السنة الخامسة والعشرون - صفر 1425هـ - أبريل نيسان 2004م، بعنوان: "الحداثة المنشودة قضية للحوار".
آخذ على الموضوع عنوانه: "الحداثة العربيّة"، فهل القضية قضيّة قوميّةٌ وهل الميزان ميزان قومي ؟! وهل الحداثة التي يطرحها أهلها يطرحونها على أساس قومي أم على أساس عام للناس كافة ؟! وحتى نجابه هذه "الحداثة الهجينة" الموجّهة للناس كافة فعلينا أن نجعل منطلقنا وميزاننا عالميّاً لكل إنسان وشعب وأرض، ولا يوجد غير الإسلام لهذا التوجّه الإنساني العام، ليكون هو المصطلح والمفهوم والميزان. لقد منَّ الله على العرب بالإسلام ليكون هو شعار المبادئ ومصطلحها ودينها ورسالتها ونهجها. وما عرف تاريخ الإسلام في الفكر والأدب والشعر إلا الإسلام عقيدةً وديناً وشعاراً، مهما وقع من تفلّت في بعض المبادئ.
لقد ظلّ الشعراء كأبي تمام والمتنبي وغيرهما يجعلون من الإسلام تدفق عاطفتهم ومصطلحهم في أشعارهم.


ولفظة "الحداثة" نفسها تحتاج إلى وقفة لنرى مدى ضرورة استخدامها، وقد طلع بها "الحداثيون" أولاً وجعلوا منها مصطلحاً لفكر محدد عندهم، حتى اشتهروا به والتصقوا به والتصق بهم.


وعند العودة إلى الكتاب والسنة نجد أن هذا المصطلح لم يَعدْ يناسب النهج الإسلامي بعد أن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، واستقرَّ الإسلام ديناً للأمة كلّها.
فكلمة حَدَثَ وأحدثَ وحديث وحداثة لها معانٍ متعددة في المعاجم. ولكن من الناحية الفكرية، وحسب ما أتت به الآيات والأحاديث، غلب عليها معنى ضد القديم الثابت عليه الناس. فإن كان هذا القديم باطلاً فكلمة محدَث تدلّ على الحق الذي جاء يلغي الباطل السائد والممتدّ، كما في قوله سبحانه وتعالى:
(وما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلا كانوا عنه معرضين) [الشعراء: 5]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
(ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدَث إلا استمعوه وهم يلعبون) [الأنبياء: 2]


ذلك أن الذكر الذي جاءهم محدثٌ ضد القديم الذي هم عليه. والقديم الذي هم عليه باطل، والذكر المحدَثُ هو من عند الله، وهو الحق.
أما عندما استقرَّ الإسلام وأصبح دين الأمة، فقد تغير استعمال هذه اللفظة مع بقاء مدلولها أنها ضد القديم الثابت في الأمة.


وفي الحديث الذي يرويه أبو داود والترمذي وابن ماجه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:« … إيَّاكم ومحدَثات الأمور فكل محدَثة بدعة وكلُّ بدعة ضلالة» (1)


وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم عندما دخل المدينة، يأتي قوله:
« …وأنه لا يحلُّ لمؤمن أقرَّ بما جاء في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحْدِثاً أو يؤويه وأنَّ من نصره أو آواه، فإنَّ عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة. ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل».(2)


ولذلك أصبحت كلمة "أحدث" و"محدث" تدل على أمر مرفوض شرعاً، غير مقبول، ولا مجال لتزيينه وزخرفته، لأنها منذ أول استعمالها هي ضد القديم. والقديم الثابت الممتد بعد أن استقرَّ الإسلام هو الإسلام. فمن أحدث فقد أتى بما يخالف الإسلام، والمحدَث: الأمر المنكر الذي يرفضه الإسلام.


وفي «لسان العرب»:
- الحديث: نقيض القديم.
- محدَثات الأمور: ما ابتدعه أهل الأهواء من الأشياء التي كان السلف الصالح على غيرها.
- المحدثة: ما لم يكن معروفاً في كتاب ولا سنة ولا إجماع.


يتضح من ذلك أن لفظة الحداثة اليوم، كما أتى بها أهل الحداثة العلمانيون، تعني ما خالف الكتاب والسنة. وما أتى به أهل الأهواء، وما لم يكن عليه السلف الصالح من الأمة.
وإني أخشى أن يكون في مصطلح "الحداثة الراشدة" بعض التناقض على ضوء ما أسلفنا. فأنَّى تكون الحداثة راشدة ًبعد أن استقرَّ الإسلام، وحملت من المعاني ما يخالف الإسلام، وقد استخدمت الأمة المسلمة كلمة الراشدة مقترنة بالخلافة الإسلامية والخلفاء الراشدين. فلا يليق بنا أن نلصق هذه اللفظة الكريمة بلفظة عليها خلاف وقد التصقت بها الفتنة والانحراف.
وأن استخدام هذا المصطلح في أحسن حالاته هو شِعارٌ خالٍ من النهج لدينا، وأما شعار "الحداثة الهجينة" فقد ملأ الدنيا ممارسة وتطبيقاً وإعلاماً. وهو يحمل النهج الخبيث. ولكنه نهج ظهر في الواقع. فكيف نقابل النهج بشعار، ونهجنا هو الإسلام ؟


ولقد أورد الكاتب في كلمته أقوال عدد من الكتَّاب , وقد استخدمت لفظة "الحداثة" عندهم بصورة متباينة بين هذا وذاك. فمن قائل: " إن الحداثة ضد التكلس والجمود "، فمن أين أتى هذا المعنى ومن أي معجم ؟! إلا إذا أردنا أن نطرح المعاجم واستخدامات الكتاب والسنة لها. ومن قائل: " إن الحداثة تعني المعاصرة ". ومن قائل: "إنها لا تطال الثوابت في هذه الأمة" وقد طالتها من أول هذه الكلمة حيث تجاوزت ما حدّده الرسول صلى الله عليه وسلم من معانٍ لكلمة "الحداثة، وأحدث، ومحدَث "على صورة رسالة ربانية محددة المفهوم والمصطلح.
ويقول الدكتور وليد حفظه الله: الحداثة في هذا الخطاب لا تلغي الآخر، ولا تتنكّر له … الخ وأقول من هو الآخر الذي يجب أن لا نلغيه ؟! ولعله الغرب العلماني ؟! إن هذا الآخر هو الذي ألغانا وتنكَّر واعتدى وأفسد.


ويقول د. قصاب: بل هي منفتحة عليه مقتبسة منه …! وكنت أتمنى أن يحصر ذلك في العلوم والصناعة وما شابهها. ففي الفكر والأدب نحن الأغنى، ونحن الذين يجب أن نقدّم لهم رسالتنا. من الخطأ أن يكون موقفنا موقف الآخذ المقتبس الحذر فقط، الذي ليس لديه شيء يُعْطيه. نحن أُمِرْنا بالكتاب والسنّة أن نبلّغ رسالة الله، وبذلك فقط نكون خير أمة أخرجت للناس. قبل أن نفكر ماذا نأخذ، علينا أن نفكر ماذا يجب أن نعطي !
وكلام أحمد عبد المعطي حجازي يدور وينطلق من نظرة إقليمية قومية، لم يخطر بباله أن الإسلام له موقف ورأي. وأما الإقليمية فما هو مستندها لتحدد موقفاً عالمياً يصغي له الآخرون. مضت قرون ونحن نصرخ من منطلق إقليمي وقومي، فما أصغوا لنا إلا أن يزيدوا تفتت الأمة المسلمة التي كادت تَنْسى رسالتها.


والقول بأن هذه الحداثة لا تتنافى مع الأصالة، قول يحتاج إلى مراجعة، فحسب ما أوضحت قبل قليل فإن الحداثة، بعد أن استقرَّ الإسلام، أصبحت بنصِّ حديث رسول الله عليه وسلم مخالفة للإسلام. ومن يقول: " إن الحداثة كما تأكَّد عبر التاريخ لا تقوم إلا على الأصالة "، كلام يحتاج إلى مراجعة. فمنذ متى عُرفت الحداثة في التاريخ حتى نستشهد به على الأصالة، ومن الذي استخدمها، وما هو رأي الإسلام فيها مصطلحاً وفكراً، وما هو تاريخها ؟! الذين استخدموا الحداثة في التاريخ تنكروا لكل أصالة كانت عند قومهم.

ومن قائل: " في تراثنا أشياء إيجابية يجب أن نحافظ عليها..الخ " الموقف لا يقف عند كلمة " التراث "، والذي لدينا أعظم من لفظة تراث ! إنه دين وذكر من عند الله، أعظم من كل شيء، إليه يجب أن تُرّدَّ قضايانا كلّها صغيرها وكبيرها. إن تراثنا قائم على الدين لا تستطيع " الحداثة " بأيّ مفهوم لها أن تتعرَّض له. فالمؤمنون الذين عرفوا دينهم والتزموه هم وحدهم يدرسون التراث بردّه إلى منهاج الله، وليس إلى الحداثة.


إننا نفهم من كلمة "تُراثنا" ما يرتبط بالدين، ولا ننظر فيما كان خارجاً عن الدين في وقته. تراثنا ديننا الكتاب والسنة واللغة العربية وما يرتبط بذلك من نشاط حق. فالقول بأن في تراثنا أشياء إيجابية هو تهوين لشأن هذا الكنز العظيم الذي منَّ الله به علينا.


والقول: إن تراثنا الأدبي وتراث الأمم الأخرى عرف مجددين عظاماً، أحدثوا وطوّروا …! إن الربط بين تراثنا وتراث الأمم الأخرى خطوة "حداثية " فتُراثنا هو كما بيّنت أعلاه، أما تراث غيرنا فكله نابع من الوثنيّة اليونانية والرومانية وما أسموه علم اللاهوت ثم المذاهب التي لا تكاد تحصر في الفكر والأدب، من هيجل وكانت وماركس وأنجلز والعشرات من أمثالهم. وكذلك استخدام كلمة أحدثوا " خطوة حداثية أخرى، مخالفة لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي عرضناه قبل قليل. فكلمة " أحدث " أصبح معناها في نصِّ الأحاديث، وفي جميع المعاجم: جاء بما يخالف الإسلام والكتاب والسنة.


لقد اختلطت الاصطلاحات اختلاطاً عجيباً بين الحداثة والأصالة والنافع والضار. بأسلوب عائمٍ لا يحدد ميزاناً ولا منهجاً، ومهما حاولنا أن نضع "للحداثة الراشدة" منهجاً أو ميزاناً فلن نفلح، وسنجد أنفسنا عدنا إلى الإسلام كله. فالإسلام وحده يغنينا عن هذه المصطلحات، فهو الذي يرسم الفكر والأدب والكلمة كلّها.


ويقول الدكتور اليافي: "أنا مع التطور والتجديد والحداثة الشعرية إلى آخر المدى شريطة أن يتمَّ ذلك ضمن خصوصيتي القومية وتراثي الثقافي ولغتي العربية".
أشعر بذلك اختلاط المصطلحات وتناقض التعبير. فالدكتور اليافي حصر القضية كلّها في خصوصيته القومية، حيث لا نجد أي ذكر للإسلام، مجرَّد ذكر ! إصرار على القومية والخصوصية بصورة متكررة. ثم يطرح ألفاظاً عائمة: تراثي الثقافي ! ما هو وما حدوده ؟ وما علاقته بالأمة ؟! التطور والتجديد، والحداثة الشعرية، إلى آخر المدى ! انفلات لم يعد يجد له ضابطاً ! إنها خطوة حداثيّة من خطوات الحداثة الهجينة، ولا يمكن أن تمثّل بهذا التناقض والانفلات أيَّ خطوة راشدة.


وهل الحداثة الراشدة " التي يدور حولها المقال خاصة بالأدب، أم بالفكر، أم الدين كله، أم العلوم، أم الصناعة ؟! ما هو مداها ودائرتها ؟! فإن كانت في مجال الأدب فحسَبَ ما ورد في المقال، فقد فتحنا الباب كلّه للحداثة الهجينة بعد أن قبلنا حداثة الشعر إلى أبعد مدى ! وفتحنا الباب لنأخذ عن الغرب ونقتبس من أدب له تاريخ وتطور ونظريّة وارتباط مختلف كل الاختلاف عن أدبنا وتاريخه ونظريته. إن الأدب الغربي كان منطلقه الوثنية، مشتتاً بين لغات متعددة، ومصالح متضاربة، وأدبنا نشأ في حضن الإيمان والتوحيد واللغة العربية، ومضى أكثر من ألف وخمسمائة من السنين محافظاً على لغة واحدة لم تمسّها الحداثة، وعلى رابطة ربَّانيّة إيمانيّة، ظلَّت في أسوأ الظروف تطلق دفقتها الغنيّة!


اختلطت مصطلحات: الحداثة، والقومية، والإنسانية، والأصالة، والنمو، والتطور، والتجديد، وغيرها اختلاطاً عائماً لم يعد لأيٍّ منها مفهومٌ محدّدٌ قابلٌ للتطبيق، ولا منهجٌ جليٌّ يُحْكَمَ له أو عليه. إنها كلها شعارات يتيه الإنسان بينها. نحن لسنا بحاجة إلى مصطلح الحداثة، ففيه شبهة واضطراب واختلاط ولغتنا غنيّة بالمصطلحات، لنجد المصطلح المناسب بعد أن نضع نهجاً نريد أن نتبعه دون تصورات عائمة. نضع النهج ثم نضع له المصطلح، وليس العكس.


فبالنسبة للأدب ظهر مصطلح الأدب الإسلامي الذي يشقُّ طريقاً منهجيّاً، يغنينا عن مصطلح الحداثة في الأدب، وإلا فليلْغَ مصطلح الأدب الإسلامي، أو الأدب الملتزم بالإسلام ! ولتتوقّف رابطة الأدب الإسلامي عن عملها، وتتولى الحداثة لتضع لها نهجاً وتتولى الأمر.


لفظة الحداثة، لم تعد تعني التطور والنمو، ولا الرشاد والوعي، ولا التجديد. ونحن لسنا بحاجة لها وقد أغنانا الله عنها ومنَّ علينا بخير منها. والسؤال الذي يحتاج إلى إجابة: إذا كنا بحاجة إلى حداثة راشدة تنطلق من أصالتنا، من ذاتنا، من حاجتنا، فلماذا لم نفكّر بها إلا بعد ما ظهرت الحداثة الهجينة، كما سبق أن ظهرت الاشتراكية الهجينة، والديمقراطية الهجينة، فما أفلح الطلاء الإسلامي، وظلّت سوءاتها غير مستورة. وكذلك الحداثة، لا أظنُّ أن الأصباغ ستفلح معها.


الإسلام هو الذي يعطي الآخر حقوقه ويعدل معه، وليست الحداثة. الإسلام هو الذي يبيّن لنا ما نأخذ وما ندع، وكيف نتعامل مع الآخر، وهو الذي يدفعنا إلى أن نعطي له لا أن نقف عند الأخذ، أن ندعوه إلى الإسلام. الإسلام هو الذي يرسم لنا نهجاً ويضع مصطلحاً.


الإسلام، والكتاب والسنة، كلُّ ذلك ليس مجرّد تراث نحتاج إلى أن نعيد النظر فيه. الإسلام هو الماضي والحاضر والمستقبل، هو القديم والجديد وهو منهج حياة كاملة لكل زمان وكل مكان.


الخلاف حول ما طرحته الحداثة الهجينة وإقبال بعضهم عليه، وإدبار آخرين، وملاينة آخرين، أشغل وقتنا، وما كان إلا لأننا لم نردَّ أمورها كلّها إلى الكتاب والسنّة ردّاً أميناً صادقاً، فكان الاختلاف والتمزّق والحيرة.


و"الحداثة" بلفظها وفكرها باب فتنة وابتلاء، يتكرر مثله في حياة المسلمين ابتلاءً منه سبحانه وتعالى وتمحيصاً منه لعباده، لتقوم الحجّة يوم القيامة لهذا أو ذاك، أو على هذا وذاك.

إنها فتنة لفظة وفتنة فكر .. فلنجتنب الفتنَ كلَّها .. عسى الله أن يهدينا سواء السبيل.
_________________________

(1) أبو داود: 34/6/4607 ـ الترمذي: 24/16/2676 ـ ابن ماجه: المقدمة: 35.
(2) د. محمدحميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ـ دار الإرشاد ـ بيروت، ط3، ص:(44 بند 22).

تعديل الرسالة…

هل تريد التعليق على التدوينة ؟