حتى همزة الوصل.. ذبحوها !


حتى همزة الوصل.. ذبحوها !




عفوا يا قارئي العزيز إذ تراني في مقالي هذا أخرج علي نهجي المتبع في كتابة مقالاتى فاصدر مقالى هذا بأبيات من نظمي.... من قصيدة طويلة نظمتها من عشر سنين عنوانها «بكائية بين يدي بشار بن برد»، أبكي فيها علي «أطلال» القيم والمروءات التي كان لها المقام الأول في مجتمعاتنا، وبلغ الاختلال فيها درجة النقيض، فمن كان مكانه القاع والمستنقع أصبح يحتل القمم، ويمتطي السحاب ..


وارتدت لبـدةَ الأسـودِ كـلابٌ  . . . . .  وجلـودَ النمـورِ سربُ الحمـيـرِ
وذُرا الراسيـات أمسَـت مطـايا  . . . . .  لـحـصَـي الأرض والغُـثاء الحقيرِ
والفـقاقيـعُ قد علت قمة السيـ   . . . . .  ـل وصـارت أميـرةً للبـحـورِ

وتذكرت ساعتها قول رسول الله صلي الله عليه وسلم حينما سئل عن أمارات الساعة «..أن تلد الأمَةُ ربٍتها, وأن تري الحفاة العراة العالة رعاة الشاء يتطاولون في البنيان»
وقوله صلي الله عليه وسلم: «إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة» و«إذا وُسَّد الأمرُ غيرَ أهله فانتظر الساعة».

أصــل الـــداء:

إن الأبيات السابقة تصور - في إيجاز وتعميم - أصل الداء، وهو «التناقضية الفادحة بين الواقع الحقيقي، والادعاء المطروح». ولكن الذي يهمنا - في هذا المقال - عرض بعض ما نظمتهُ مصورًا لحالة «الانهيار اللغوي» الذي وقع بأيدي قوم يسعدهم التخريب والتدمير لأنهم يتنفسون بروح البوم, و«يقرضون» بغريزة فيران السفينة. وفي قصيدتي المتواضعة أقول:


يا ابن برد هل يعلمـنَّ «سباويـ   . . . . .  ـهُ» بمأساة «نَحـوِنا» المَنكورِ
«فالمفـاعيلُ» توّجــوها «برفعٍ»  . . . . .  بينما «الفاعـلون» في المجـرورِ
و«المواضي» مضارعٌ وحـروفُ الـ  . . . . .  ـجرِّ «نصبٌ» وهـانَ أمرُ الضميرِ
و«صلاتُ الموصول» أفقدَها الوصـ  . . . . .  ـــلَ جــهـولٌ مـتـوَّج بالـغـرورِ
و«انتـصابُ» الأخبـارِ أمرٌ بسيطٌ  . . . . .  سائـغٌ هيـنٌ على التـفسـيرِ
فإذا قلـتُ... أوقفوا الجهلَ حتى  . . . . .  نُــدركَ الداءَ فهُـو جِـدُّ خطـيـرِ
هتـفَ الأدعيـاءُ «من ذَا حَـبَـاكمُ  . . . . .  إمرةَ النحـوِ, أو إِقامَ الكسـورِ؟»
فإذا قلت: «إنما النـحـوُ قــانـو  . . . . .  نٌ لضبــطِ المنــظـومِ والمنـثـورِ
أجمـعُوا أمرهم بلـيـلٍ وصاحُوا  . . . . .  «لـــسـتََ فيها بمُنـكَرٍ ونَكيـرِ»
سَقطَت أُمّـةٌ تـراختْ فصَـارت  . . . . .  لــــغـةُ الديـنِ نهـبَ كل عَـقورِ
وَالـغِ عِرضَها الشريفَ بدعـوى  . . . . .  «طِـــبـه» الناجـعِ الجديدِ القديرِ
فإذا طِـــــبُّـــه خِــــداعٌ وزورٌ  . . . . .  يجعلُ السهلَ ألفَ ألفَ عسيرِ
هكــذا يُستـــبـاحُ كلُّ أصـيل  . . . . .  ويـفـــضُّ البيــــانَ كـلُّ صغيـرِ
ويصيــرُ التـراثُ عنـها نفيـشا  . . . . .  تــائـهَ الخـطـوِ ما لَهُ من نصيـرِ
وإذا أنـكـرَ الجـذورَ نبـــــــاتٌ  . . . . .  مات في لفـحةِ الهجيـرِ المريـرِ

انهيار لغوى مستمر:

والانهيار اللغوي لا يتوقف أبدًا، بل إنه يتسع في اطراد دائم في كل المجالات، في المدرسة نري مدرس العربية يشرح دروسه بالعامية!

قلت لواحد من هؤلاء: يا فلان إن عليك أن تشرح دروسك بالعربية الفصحي.
أجاب ـ بلهجة ساقطة ـ وعلي وجهه علامة تعجب خطيرة:
- الله! يعني سيادتك عاوزني اتكلم «بالنحَوًي» دا التلامذه تدحك عليّ [يقصد تضحك] ومش حيفهموا حاجة..!
قلت: أنا لا أقصد العربية الغريبة المتقعرة، ولكن أقصد العربية السهلة الواضحة.
قال: برضه مش حيفهموا .. علشان فيهم ليبيين وسعوديين وشوام.
قلت: هذا مبرر لأن تتحدث «بالعربية الفصحي» فهؤلاء «العرب» أقدر علي فهمها من العامية المصرية.  ولكن:

لقد أسمعت لو ناديت حيا   . . . . .  ولكن لا حياةَ لمن تنادي

التفازيون.. والتلفازيات:

وقد كتبنا كثيرًا عن لغة «أهل التليفزيون» المصري بقنواته الفضائية والمحلية... الحكومية والخاصة وما تزخر به من أخطاء نحوية وأسلوبية, وما يتميز به بعضهم من «عيوب» في النطق ذاته: فلانة يسميها الجمهور «المدفع الرشاش»... وأخري عندها قدرة سبك الحروف والكلمات كلها في نفخة متواصلة بلا تفريق بين مخارج الحروف، وثالثة ألغت الصاد والقاف والطاء والثاء والذال والضاد والظاء من معجم العربية.
فكلمات مثل: صدقني - القيادة - الطرب - الثقوب - الذمة - الضمير - يظهر.
تصبح: سدأني - الكيادة - الترب - السكوب - الزمة - الدمير - يزهر.

ورأيت واحدًا منهم يقرأ من ورقة «... ومن أبطال هذه المعركة عمر بن مَعٍدًيَكَرٍب فارس زيد» والصحيح ـ كما هو معروف ـ أنه عمرو بن معدًيكَرًب فارس زَبًيد وزبيد قبيلته اليمنية التي ينتسب إليها.

وفي الشهر الماضي، أسمع وأري أحدهم يقول: «وهذا الكتاب من تأليف الدكتور كمال بَشَر» (بفتح الباء والشين). وهو يقصد أستاذنا العظيم الدكتور كمال بِشْر (بكسر الباء وتسكين الشين) .. وهو أشهر من علم.

ومن مظاهر الانهيار ـ وهو مظهر مؤسف جدًا ـ أن يقع هؤلاء في أخطاء لا يقع فيها تلاميذ المرحلة الابتدائية: يظهر ذلك في العجز العملي عن التفريق بين همزتي الوصل والقطع، وهو درس من دروس النحو في المرحلة الابتدائية.
فالعبارة التالية:
(وقد استغرقَ الاجتماعُ الحزبي في القاهرة ثلاث ساعات) ليس فيها همزة قطع واحدة، وما فيها نسميه همزة وصل، لأننا نصل الكلمات نطقًا كأن الحرف لا وجود له، بالصورة الآتية: (وقد سْتَـغرق لْجتماعُ لْحزبي في لْقاهرة ...)
ولكن النطق «التلفازي» ـ منها أو منه ـ يجعل كل الهمزات همزات قطع، مع وقفات مؤسفة علي النحو التالي:
(وقد ـ إِستغرق ـ ألإجتماع ـ ألْحزبي ـ في ـ ألْقاهرة) !
وتشبه همزة الوصل الحرف الصامت في الإنجليزية، كما نري في الفعل (Know) - أي (أعرف) فحرف - K - لا ينطق.
هذا وننبه كذلك إلي أن همزة الوصل تنطق قطعًا إذا كانت في بداية الكلام فتقول: إستخرجنا النفط ولكنها لا تنطق إذا سبقها سابق كحرف أو اسم أو فعل فنقول: ثم استخرجنا النفط.
أما همزة القطع فلا بد من نطقها في أي موقع كانت، كما نري في العبارة الآتية: (أحمد وإبراهيم أخوان فاضلان، وقد ألزمهما أبوهما بأداء حق كل أمين).


والتفوق – فى بلادنا - خطيئة:

هذا من «بدايات النحو» الذي يجهله التلفازيون والتلفازيات, قصدت أن أقدمه لأقول: ابدءوا يا هؤلاء من الصفر بدلاً من تضييع الوقت في التظرف المرفوض، وحشر الأجساد في «الجنز» الخانق.
وفي النهاية أدلي بشهادة حق في هيئة سؤال ـ بعيد عن المجاملة أو الاتهام ـ: أين عاصم بكري ذلك الشاب الذي دخل كل بيت؟! أين درسه اللغوي الخفيف الذي كان أبناؤنا يتزاحمون عليه أمام الشاشة الصغيرة؟ وأين برامجه الاجتماعية والسياسية التي كان يقدمها بلغة عربية فصيحة عفوية دون تكلف أو تعسف، وبإلقاء جميل؟
سألت عنه فقال لي بعضهم: «اتقصّ منه حاجات كتير، ورفعوا الأضواء عنه».
سألت عن السبب، قالوا: هو اللي غلطان.. حد قال له ينجح ويتفوق في كل أعماله ؟!

تعديل الرسالة…

هل تريد التعليق على التدوينة ؟