وجوب التكلم بالفصحى

إن كلمتي هذه تدور حول وجوب التكلم باللغة العربيّة الفصحى، ووجـوب دراستها، وحمايتها، والدعوة إليها، وتعهُّد أنفسنا وأبنائنا وإخواننا على ذلك، أقدمها نصيحة خالصة لوجه الله للأمة كلها في جميع مستوياتها.

ولندرك أهميّة هذه المسؤولية وخطورتها لابد أن نعرض بإيجاز بعض القضايا التي تكشف لنا أهمية اللغة بصورة عامة، وأهمية اللغة العربية وتميّزها من غيرها، وصِلتَها بالدين العظيم ـ الإسلام ـ وبالإيمان وبالحياة عامة، عسى أن ندرك أن وجوبَ التحدّث بالفصحى ودراستها وحمايتها والدعوة إليها جزءٌ من دين الله لا تنفصل عنه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اللغة من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإنَّ فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهَمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب" (1)

فللُّغة بصورة عامة أثرها الكبير في حياة الإنسان، فبها يتم التخاطب والتعارف والتفاهم وقضاء الحاجات وتطوير الحياة وميادينها. ومن بين أهم آثارها أثرها في عمليّة التفكير لدى الإنسان، الأثر الذي تناول دراسته عدد من العلماء والفلاسفة، حتى إن بعضهم اعتبر اللغة هي التفكير، فاندماج التفكير باللغة تام عند هؤلاء، بينما يرى آخرون أن اللغة هي وعاء للفكر، ويزداد أثر اللغة بالفكر كلما ازدادت اللغة نموّاً وقوة وخصائص.

ثمّ إن اللغات في حياة البشرية مختلفة، حتى كان هذا الاختلاف آيةً من آيات الله - سبحانه وتعالى -: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم: 22]

أعتقد أنه يمكن أن نعتبر جميع هذه اللغات في جذورها نابعة مما علّمه الله - سبحانه وتعالى - لآدم - عليه السلام -: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" [البقرة: 31]

وخاطب الله آدم - عليه السلام -، وخاطب آدم ربّه، وتخاطب أولاد آدم، وتحاور ولداه بهذه اللغة، ثم تفرّق أبناؤه في اتجاهات مختلفة، فتطورت اللغة مع كل اتجاه، ونمت لغة كل قوم حسب مسيرتهم وبيئتهم على سنن ربّانية ماضية، لا نعلم تفصيلات ذلك، إلا أن المسيرة انتهت بلغات مختلفة كان اختلافها آية من آيات الله للعالِمين. ولكننا نعلم أن الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان وعلمه البيان، وعلمه القرآن، فاقترن خلق الإنسان بتعليمه البيان: "الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْأِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ" [الرحمن: 1ـ4]

فمن اللغة الأولى التي تعلمها آدم - عليه السلام -، خرجت اللغات كلها، ولكل لغة مسيرة وتاريخ. وكان من بين هذه اللغات اللغاتُ الساميّة التي خرجت منها لغة المسند التي هي اللغة الأصلية في الجزيرة العربية. ومن لُغَة المُسند خرجت اللغة العربية، وأخذت تنمو وتتطور حتى بلغت أوج نضجها وذروة نموّها عندما نزل بها الوحي الكريم على محمد (، قرآناً عربيّاً، وكانت لغة النبوّة الخاتمة، ولغة الوحي، والعبادة.

ولقد حبا الله بفضله هذه اللغة العربية من الخصائص والميّزات، من الجمال والجرس والبيان، فاختارها لتكون لغة رسالته الخاتمة للبشرية كلها فزادها بذلك شرفاً وفضلاً.

ونزل بها الوحي الكريم لتحمل رسالة الله إلى البشرية كلها حتى قيام الساعة، لساناً عربيّاً: "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" [الأعراف: 158] "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" [سبأ: 28]

فأنزل الله - سبحانه وتعالى - هذا القرآن العظيم لساناً عربيّاً للناس كافة، فارتبطت اللغة العربيّة بذلك بالإيمان والتوحيد، والقرآن الكريم، وبميادين متعدّدة في الحياة، كما نرى ذلك من الآيات الكريمة التالية: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" [الأنبياء: 107]

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" [الزمر: 28، 27]

"وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ " [الرعد: 37] "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" [فُصِّلت: 3] "وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" [الشعراء: 192ـ195]

"وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً" [طه: 113] "الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ" [الرحمن: 1ـ4]

فارتبطت اللغة العربية، كما نجد في هذه الآيات الكريمة بميادين شتى من الحياة وأمور متعددة، ارتبطت: بالقرآن الكريم، بالتشريع والحكم، بالإيمان والتوحيد، بالدعوة والبلاغ والبيان، بالتذكير، بالبشرى والنـذر، وكذلك بكل مثل. فارتبطت بذلك بجميع ميادين هذا الدين العظيم، وجميع ميادين الإنسان، وارتبطت بالإنسان، بخلقه وحياته ومماته، فأصبحت اللغة العربيّة في ميزان الإسلام هي اللغة العالمية تمضي مع امتداد الرسالة الربانيّة وامتداد منهاج الله.

ولخطورة هذه القضية بالنسبة لهذا الدين، وبالنسبة للإنسان ومصيره بين يدي الله، وبالنسبة للدعوة الإسلامية وأهميتها في إنقاذ الإنسان من فتنة الدنيا ومن عذاب الآخرة، فقد تعهّد الله بحفظ هذا الذكر قرآناً ولغة عربية: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" [الحجر: 9]

ولا يُعقل أبداً أن ينزل الله لعباده كتاباً لا يفهم ولا يتدبر، وقد أنزله للناس كافّة. إنّ الله - سبحانه وتعالى - قد أنزل هذا القرآن العظيم معجزاً لا يستطيع أحد من الإنس والجنّ أن يأتوا بمثله، ولكنه مع إعجازه هذا جعله ميسّراً للذكر، للتلاوة والتدبر والحفظ والتعهّد، وللممارسة في الواقع في ميادين الحياة: "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ "[القمر: 40، 32، 22، 17]

ولقد تكررت هذه الآية الكريمة في سورة واحدة هي سورة القمر أربع مرات. ولا يكرر القرآن الكريم آية أو نصّاً في القرآن الكريم إلا للأهمية القصوى. فكذلك في سورة الشعراء تكرر قوله - سبحانه وتعالى -: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ " [8-9] وفي سورة الرحمن تكرر قوله - سبحانه وتعالى -: "فَبِأَىِّ ءَالاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" . ولذلك جاء أمره - سبحانه وتعالى - بتلاوة القرآن الكريم وتدبره.

"وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً " [الكهف: 27] "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" [محمد: 24]

ويتأكد هذا الأمر بآيات وأحاديث كثيرة، بعد أن يسّر الله القرآن الكريم للذكر. ولكن كثيراً من الناس اليوم لا يشعرون بأن القرآن الكريم ميسّر للذكر. وسبب ذلك أنهم فقدوا أحد الشرطين أو الشرطين معاً اللذين جعلهما الله سبب التيسير. فقد جعل الله لتدبّر كتابه مفتاحين، يعملان معاً، لا يُغني أحدهما عن الآخر. هذان المفتاحان هما: صدق الإيمان وصفاؤه، وإتقان اللغة العربية. وقد بيَّنها الله لنا في كتابه الكريم. أما بالنسبة لضرورة الإيمان وصدقه لفهم كتاب الله فذلك في آيات كثيرة نأخذ قبسات منها: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً" [الإسراء: 82] "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ" [فُصلت: 44]

أما بالنسبة للمفتاح الثاني هو اللغة العربية، فقد سبق أن ذكرنا بعض القبسات من القرآن الكريم، نذكر هنا قبسات أخرى:

"وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ " [الشورى: 7]

"وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ" [الأحقاف: 12]

"إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" [يوسف: 2] "بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" [النحل: 44]

" فارتبطت اللغة العربيّة بالقرآن الكريم، بالعقل: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وبالفكر والتفكير: وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.

هذه هي منزلة اللغة العربية عند الله، وفي دينه الإسلام. وهبها الله من الخصائص المميّزة التي شرفها الله بها والتي اختارها بها وفضلها على سائر اللغات

إنصاف للعربية:

وقد تحدّث عن عظمة اللغة العربية كثيرون من أئمة الإسلام وعلماء اللغة ورجال الغرب، مما يطول عرضه. ولكن نذكر بعض هؤلاء: الإمام الشافعي(204هـ)، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (255هـ)، محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة (276هـ) وكثيرون آخرون. ومن المستشرقين: آرنست رينان، وغليوم بوستل الفرنسي، والمسيو بارثلمى هربلو الذي قال: " إن اللغة العربية أعظم اللغات آداباً، وأسماها بلاغة وفصاحة، وهي لغة الضاد " وآخرون. وحسبها دليلاً على عظمتها وتميّزها أن الله - سبحانه وتعالى - اختارها لرسالته لتكون رسالة للعالمين.

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "تعلّموا العربيّة فإنها تثبِّت العقل وتزيد المروءة" (2). وقال: " تعلّموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض " (3). وقال: " تعلموا إعراب القرآن كما تعلمون حفظه (4) ".

ومرّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على قوم يُسيئون الرمي فقرَّعهم. فقالوا: إنا قوم متعلّمين. فأعرض مغضباً وقال: والله لخطؤكم في لسانكم أشدّ عليّ من خطئكم في رميكم. (5) وقيل:

لا خيـرَ في الـمـرءِ إذا مـا غَـدا *** لا طـالـبَ العلـم ولا عـَالـمـا(1)

العربية والتحديات:

واللغة العربيّة تجد اليوم تحدّيات كثيرة. ولقد عرف أعداء الله أن أول ما يجب أن يحاربوه في حربهم على الإسلام اللغة العربيّة. وجرت محاولات كثيرة لتغيير الحروف، وحذف الحركات، وتجهيل الناس بها. ولكنها تحدّت ذلك، ومازالت اللغة العربية صامدة في الميدان تواجه التحديات، وأقسى هذه التحدّيات إساءة بعض أبنائها لها. وإنها مسؤولية كلِّ مسلم أن ينهض للدفاع عن لغة القرآن وحمايتها. وإن أساس هذا الدفاع وهذه الحماية أن يكون عملاً منهجيّاً يمضي على خطة، تدفعه النيّة الصادقة والعزيمة الصادقة. وأول خطوة في هذا النهج هي منك أيها المسلم، حين تبدأ بنفسك لتتقن اللغة العربية نطقاً وحديثاً وأدباً. ونتدرّب على استخدام اللغة العربية الفصحى في بيتك ومدرستك وحياتك كلها. ثم تنطلق لتستكمل عملك بلغة القرآن، وتدعو غيرك وتعينه على ذلك، حين تدرك أن هذا العمل عبادة لله وطاعة له وجهاد في سبيله.

فعن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - عن الرسول (المُجَاهِدُ مَنْ جاهَدَ نَفْسَهُ في سَبِيلِ الله - عز وجل -) (6)

فجاهدوا أنفسكم وانطقوا العربية الفصحى، واحموا لغة دينكم وبذلك تحمون دينكم. لينطلق هذا كله من إِيمان بالله صادق ويقين حق، وإيمان بأن اللغة العربيّة مرتبطة بالإيمان والتقوى. ومن هذا الإيمان واليقين تنطلق النيّة الواعية الصادقة تحمل العزيمة والتصميم والحوافز الإيمانية والمبادرة الذاتية بأن لا تتكلموا إلا باللغة العربية الفصحى. فأصلحوا من لسانكم

إن هذه الخطوةَ المباركةَ دفاعٌ عن دينٍ وعن أمة وعن تاريخ، إنه واجب شرعيٌّ على كل مسلم. ولن تكون وحدك في هذا الأمر، فمعهدك يدرّبك ويعلمك ويعينك، وإخوانُك، ومَنْ حولك من العلماء، وإنها مهمّة يجب أن تتعاون الأمة كلها عليها، فكن أنت الانطلاقة إلى ذلك بعزمك وصدقك وبذلك

إنها ليست مهمة آنيّة تنتهي بين ليلة وضحاها، ولكنها مهمة عمر ممتد لتكون جزءاً من منهج متكامل لا تنفصل عنه، منهج يجمع الأسس كلها والخطوات كلها لنصرة دين الله وإعلاء كلمته.

وإنّ أول خطوة في هذا النهج مصاحبة منهاج الله ـ قرآناً وسنة ولغة عربيّة ـ صحبة عمر وحياة، صحبة منهجية، صحبة لا تتوقّف حتى يلقى المسلم ربّه. إن كتاب الله يقوّم اللسان، ويدرّبك على اللغة الفصحى، ويُغني القلب، ويوفر لك الزاد العظيم على درب الحياة. ومن خلال هذه الصحبة المنهجية الممتدة لمنهاج الله تعرف مسؤولياتك الفردية التي وضعها الله في عنقك والتي ستحاسَب عليها بين يدي الله، يوم لا يُغني مولى عن مولى شيئاً

وإن كان هذا الخطاب موجَّهاً إليكم أيها الشباب المؤمنون، فإنه في الوقت نفسه نداء لكل مسلم، نداء للوالدين في البيوت، والأساتذة في المعاهد، ورجال الإعلام في ميدانهم، فكلنا مسؤولون عن ذلك ومحاسبون.

وفي الحقيقة فإن كل أمور التربية والبناء في الأمة تبتدئ في البيت، والوالدان مسؤولان عن ذلك ومحاسبان، ليحفظا لأبنائهم الفطرة السليمة التي فطرهم الله عليها، ويزودانهم بالزاد الطاهر النظيف الغني. فإن أوّل حق من حقوق الإنسان في ميدان الإسلام هو حماية الفطرة التي فطر الله الناس عليها من أن تشوه أو أن تفسد:

"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" [الروم: 30ـ32]

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن الرسول (قال: «ما من مَولودٍ إلاَّ يولَدُ على الفِطرةِ، فأَبَواهُ يُهوِّدانه أو يُنَصِّرانهِ أو يُمجِّسانهِ، كما تُنْتَجُ البَهيمةُ بَهيمةً جَمْعاءَ، هل تُحِسُّونَ فيها مِن جَدْعاءَ»؟ (7)

وبحماية الفطرة يقوى المسلم على التكلم باللغة العربيّة الصحيحة، ويقوى على فهم اللغة العربيّة الفصيحة ومعرفتها ومعرفة أساليبها وبيانها ليسهل من خلال ذلك تدبّر كتاب الله وسنة نبيه، ولتتفتح المواهب والقدرات!

وإني أختتم كلمتي هذه بالدعاء إلى الله - سبحانه وتعالى - أن يشرح الصدور، ويشدَّ العزائم، لننهض كلُّنا إلى هذه المهمة العظيمة في خشوع وإنابة إلى الله - سبحانه وتعالى -.
___________________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم 1/470
(2) أخبار عمر: ص: 282.
(3) البيان والتبيين (ص: 171).
(4) أخبار عمر: ص: 282.
(5) رواه ابن الأنباري في الوقف، والمرهبي في العلم(كما في كنز العمال 3/142)
(6) أحمد (23573) والترمذي (1623) وقال: حديثُ فَضَالَةَ حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
(7) البخاري (1334)مسلم (6706)

تعديل الرسالة…

هل تريد التعليق على التدوينة ؟